الصفحات

19‏/2‏/2018

السوق الحزين

قصة قصيرة بقلم المودن أحمد

" على هامش الأحداث التي عرفها دوار أولاد بن كدار بودكة - غفساي- تاونات "


أناس تائهون وسط الأوحال...وجوههم صفراء وكأنهم قد خرجوا للتو من القبور..." البوط" بأرجلهم يصدر صوتا كما لو أنهم يلبسون أحذية الجنود...والجلباب الصوفي يغطي أجسادا نحيفة تقاوم البرد و " الغيس " وهي تحمل أكياسا مختلفة المحتوى...
هذا الصمت لم يشهد له سوق اﻷحد مثيلا...بل حتى بائعوا المبيدات و اﻷعشاب نكسوا مكبرات الصوت...
جلس احميدو العائد للتو من مدينة فاس بإحدى المقاهي الشعبية بالسوق ، ثم طلب إبريق شاي...
الزبناء يتكاثرون لكنهم صامتون، حزينون !!!
سأل احميذو شيخا يجلس بقربه وهو يلتهم سردينا مقليا وخبزا يابسا يبدو أنه حمله معه من داره :
- ما بال هؤلاء القوم صامتون يا عم ؟
- الناس حزينون يا ولدي هنا...لقد توفي شخص وهو يدافع عن أرضه...رحمه الله...
يجيب الشيخ معتقدا أنه أشفى غليل السائل...
لكن احميذو يفاجئه بسؤال غريب:
- لكني قد قرأت البارحة، يا عم ، أن السكان هم من منعوا سيارة اﻹسعاف من حمله...وبالتالي فالسلطة تحملهم المسؤولية في عدم انقاذه من الموت...
هنا يتدخل شاب في الثلاثينات من عمره ويقاطع احميذو:
- السلطة تريد الهروب إلى اﻷمام كي لا تتحمل المسؤولية، لأنها تسرعت في غرس أرض متنازع عليها بين المياه والغابات والمواطنين...فقد كان عليهم انتظار الحكم النهائي قبل تنفيذ عملية التشجير ...
بدا كما لو أن الموضوع قد أثار كل الزبائن، فأصبحوا يقتربون رويدا رويدا من طاولة احميذو الذي توجه للجميع قائلا :
- اسمعوا يا سادة أنا إبن جبل ودكة وقد سبق لي أن قمت ببحث حوله...صدقوني أن الموضوع كبير ومتشعب جدا...فغابة جبل ودكة عرفت مدا وجزرا حسب الحقب التاريخية التي مرت بها بني زروال...فقد كان لها ملاكها قبل دخول المستعمر، سواء بوثائق مكتوبة أو بطرق عرفية، لكن خلال عهد السيبة الذي سبق دخول المستعمر، اضطر السكان للتجمع في تجمعات سكنية فتخلوا عن أراضيهم ومنازلهم المتفرقة لتنمو بها الغابة من جديد خاصة خلال سنوات الجفاف...و أمام القبضة الحديدية للمستعمر أصبحت للغابة حدود حاولت مديرية المياه والغابات المحافظة عليها بعد اﻹستقلال ...فكانت تلك القطيعة الكبيرة بين اﻹنسان الودكي وأرضه التي أصبحت غابة ...
لكن مع ظهور زراعة القنب الهندي وتكاثر السكان أصبحت الغابات تعرف اجتثاثا كبيرا...بحيث أصبح كل فلاح يتوسع في المجال الغابوي المحادي له...وعاد بعض السكان لأرضهم القديمة اعتمادا على وثائق يملكونها أو لأن اﻷهالي يعرفون أنها كانت في ملك أجدادهم...وعمت الفوضى في غياب تام للسلطات إلا من جمع الإتاوات وفرض الذعائر و الإستفادة مما يجود به المواطنون سواء رغما عنهم أو عن طيب خاطر...بل وحتى لما فكرت الدولة في تسييج المجال الغابوي حدثت خروقات كثيرة، فرأينا كيف كان السياج يمر من حيث يريد المواطن الذي يدفع أكثر...وقد بدأت مرحلة اﻹجتثاث والترامي الكبير على الغابة انطلاقا من أواسط التسعينات...
وهنا يقاطعه صاحب المقهى :
- لكن ماذا فعلت الدولة بهذه اﻷرض من التسعينات إلى اليوم؟ ...لماذا لم تقم بالتشجير من البداية وقبل أن يبني الناس المنازل فوق هذه اﻷرض ...بل أنه هناك من ورثها عن أبيه الذي توفي وبالتالي فهو يعتبرها ملكا شرعيا له؟!
يصمت احميذو قليلا ثم يجيب :
- الدولة يا أخي لم تقدم شيئا لهذه اﻷرض ولا لهؤلاء السكان...تركت لهم الكيف وأهملتهم...فكما ترى لا طرق ولا صحة و لا مشاريع...لهذا كان عليها أن توفر البديل بالموازاة مع استرجاع أرضها...كما كان عليها أن تحاسب كل المسؤولين الذين مروا من هناك ...مع التأكد مما إذا كانت هذه اﻷرض التي تريد إعادة تشجيرها ليست في ملك أي مواطن...وكذا كان عليها تحسيس الناس وتوعيتهم بأهمية الغابة...فكما تعلمون لازال الناس عندنا يتساءلون عن الفائدة من هذه اﻷشجار المغروسة بالنسبة للمواطن...!!!
يشرب احميذو كوب ماء ثم يكمل متأسفا:
- والله إني حزين لموت ذاك المواطن وحزين أكثر لزوجته وأبنائه ولأهل الدوار لما سيعانوه لاحقا...وحزين للإهمال الذي تعاني منه بني زروال عامة...وفي نفس الوقت حزين لما تتعرض له غابة جبل ودكة من اغتصاب سيحاسبنا عليه أبناؤنا وأحفادنا...
هنا سيفاجئ احميذو بانسحاب كل من كان يسمع له وهم يتمتمون:
- وهل نحن سنأكل الحطب؟ ..
اغتنم فرصة انطلاق أول سيارة من نوع 207 نحو جبل ودكة، ليغوص مع ركابها في اتجاه تاريخ يتجه نحو القرون الوسطى كلما اتجهت السيارة نحو مداشر الجبل ...
حال...وجوههم صفراء وكأنهم قد خرجوا للتو من القبور..." البوط" بأرجلهم يصدر صوتا كما لو أنهم يلبسون أحذية الجنود...والجلباب الصوفي يغطي أجسادا نحيفة تقاوم البرد و " الغيس " وهي تحمل أكياسا مختلفة المحتوى...

لقراءة التعاليق المرجو الضغط: هنا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنكم التعليق باسم " مجهول - anonyme "