15‏/5‏/2022

مدبرها جكيم

 مدبرها حكيم 


قصة قصيرة بقلم أحمد المودن


جلس على سريره بغرفته الضيقة، يكتب مذكراته تارة، ويمرر بأصابعه على صور بألبومه تارة أخرى ...يبتسم وهو يخاطب زوجته زهرة التي اتخذت من الغرفة المجاورة مستقرا لها خلال النهار:

- لقد كنت شابا وسيما يازهرة...تسريحة شعر رائعة، وهندام يوحي للمرء أنني كنت مديرا أو أكثر...لقد كنتِ محظوظة حينما فزت بي زوجا لك...

تغضب زهرة فترد عليه :

- عن أي حظ تتحدث يا هذا، وأنا أصبحت معك كالشبح...وقد كنت زهرة متفتحة يتمناني كل الشبان...واليوم أصبحت ذابلة بعد كل هذه السنين من التعب والحمل والولادة والتربية...فقد كبر الأبناء وتزوجوا وانقطع وصالهم...وها نحن اليوم وحيدين كزوج بقر وحشي تاه عن القطيع فانتهى به الأمر بغابة مليئة بالذئاب و الضباع...

يمرر الحاج علي على رأسه محاولا تسريح بقايا شعر أبيض يحمي به صلعه...وقد اهتدى لإخفاء هذه اللوحة البيضاء بطربوشه المستدير الذي أخذ مع الأيام حجم رأسه بالضبط.

- انظري يا زهرة لهذا السقف الذي تشقق أعلى إنه ينذر بكارثة...يا لسوء حظنا، فبعدما فعلنا المستحيل من أجل مستقبل الأبناء، ها نحن نكتري بيتا فوق السطوح، نعيش فيه وحيدين كأننا لم نخلف...

يقول الحاج علي مخاطبا زوجته التي كانت تحاول إغراق شعرها في عجينة حناء ليكتسب لونا برتقاليا تخفي به شيبها المزعج...فترد بحزن:

- أنا ياحاج أخاف أن يموت أحدنا قبل الآخر، فيجد الحي منا نفسه وحيدا من دون معيل...فالأبناء لم يسألوا عنا منذ شهور عدة، وكأنه لا وجود لنا...ولولا المحسنين لما وفرنا ثمن إيجار هذا البيت الصغير...

يبتسم الحاج علي وهو يطمئن زوجته قائلا:

- لا تقلقي يا زهرة...مدبرها حكيم...فالذي خلقنا لن ينسانا...

............


تمر الأيام...ليشتم الجيران رائحة خبيثة، دون أن يستطيعوا تحديد مصدرها...فالناس بهذه العمارة يعيشون كالغرباء...لا أحد يسأل عن الآخر...

تحولت الشكوك صوب بيت العجوزين اللذان لم يشاهدهما الجيران بسلالم العمارة منذ أيام...

دق بعضهم على الباب...لكن لا أحد رد...فاقترح أحدهم تكسير باب البيت، لكن الباقون رفضوا بدعوى أن هذه الخطوة يجب أن تكون بعد إخبار السلطات المحلية...

كانت المفاجأة صادمة...فبعد تحطيم الباب الخشبي وجد القوم أنفسهم أما كومة ركام فوق جسدين هزيلين كانا ينامان جنبا إلى جنب...

تراجع الجميع إلى الخلف نظرا لبشاعة المنظر وخبث الرائحة الناتجة عن تحلل الجسدين...بل وتبادل الجيران نظرات الأسى وكأنهم يلومون أنفسهم...

بعد البحث في أشياء العجوزين تمكن القوم من إيجاد أرقام هاتفية اتصلوا بها جميعها ليتم أخيرا إخبار الأبناء بالفاجعة...

بعد ساعات جاء الأبناء والبنات...فكثر العويل والبكاء وتبادل التهم بالتفريط والإهمال، في حين تم نقل الجثتين إل


ى مستودع الأموات قصد التشريح...

اغتنم الأبناء فرصة إفراغ البيت من ركام السقف الذي تهدم فوق رأسي والديهما ليفتشوه ركنا ركنا، بل قطعوا السرير وأفرغوا الوسادات، فلم يعثروا سوى على مذكرات الحاج علي وقصائده وقصصه...وقد كتب في آخر مذكرة له: " ...لا تقلقي يا زهرة فأنا لن أتركك خلفي...وأنت لن تتركيني خلفك...فالذي خلقنا لن ينسانا...نعم يا زوجتي...مدبرها حكيم...

أما الأبناء والبنات فسيشربون من نفس الكأس...فكما تدين تدان..."

كان للجمل الأخيرة مفعول الخنجر وهو يُدَسُّ بقلوبهم...فطأطأوا رؤوسهم، وخرجوا جميعا...  

#أحمد_المودن


( الصورة من صفحة " قرية المعارف " )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنكم التعليق باسم " مجهول - anonyme "